(أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين)

الجزء الأول

(من الأجزاء الأربعة للكتاب، هو)

العودة إلى الإسلام؛ المقدّمات

(يعني مقدّمات العودة إلى الإسلام بمعنى الأشياء التي نحتاج إليها قبل أيّ شيء آخر للعودة إلى الإسلام ولايمكن العودة إلى الإسلام بدونها وإنّها كما يقول سيّدنا المنصور شيئان: الأول معيار المعرفة بمعنى ملاكها الذي من الضروريّ معرفته والإلتزام به من أجل معرفة الإسلام والثاني موانع المعرفة التي من اللازم معرفتها والإبتعاد عنها من أجل معرفة الإسلام. لكن ربّما يستشكل أحد فيقول أنّه لامعنى لمعرفة معيار المعرفة أو ليست من الممكن بعبارة أخرى؛ لأنّها دور في الإصطلاح؛ كقولنا إذا نقول معرفة المعرفة وهو قول لامعنى له ولكنّها إشكاليّة ستُرفَع بسهولة نظرًا إلى المباحث القادمة في الكتاب؛ لأنّ سيّدنا المنصور يعتبر معيار المعرفة أمرًا بديهيًّا وغنيًّا عن المعرفة ويتّضح من هنا أنّ تعبير «معرفة معيار المعرفة»، ليس إلا تسامحًا في التعبير ولقد اضطُرَّ القائلُ إلى استخدامه من أجل إيصال المقصود إلى المخاطب. أمّا)

المقدمة الأولى؛ معيار المعرفة

(فيقول سيّدنا المنصور:) إنّ القول في معیار المعرفة علی النحو الکلّيّ وبالتالي معیار معرفة الإسلام علی النحو الجزئيّ، یقتضي تقدیم عدّة مقدّمات: (إذن، هذه المقدّمات ترتبط بمعيار معرفة كلّ شيء ولاتختصّ بمعرفة الإسلام ولكن تشمل معرفة الإسلام تبعًا لذلك؛ لأنّ الإسلام واحد من الأشياء وهو قابلٌ للمعرفة عبر معيار المعرفة كباقى الأشياء. المقدّمة الأولى)

١ . ضرورة معيار المعرفة

(بمعنى أنّ معيار المعرفة ضروريّ ولازم للمعرفة؛ كما يقول:) إنّ معرفة کلّ شيء في العالم تتطلّب معیارًا ومعرفة الإسلام لیست مستثناة من هذه القاعدة. (يعنى بالرغم من أنّ معرفة الإسلام أكثر شرفًا وأعلى قيمةً من معرفة الأشياء الأخرى ولكنها لاتختلف عن المعارف الأخرى من حيث أنّها معرفة وتحتاج إلى المعيار بمعنى الملاك مثلها. ثم يقول:) المراد من المعرفة تمییز شيء ما من شيء آخر، کتمییز الخیر من الشرّ أو الحقّ من الباطل أو الصحیح من الخطأ (فيتّضح من كلام سيّدنا المنصور هذا أنّ المعرفة ترتبط بعالم الأضداد يعني العالَم الذي فيه أشياء متضادّة فيما بينها وهي بمعنى تفريق بين الأشياء ومن المعلوم أنّ فرق الأشياء يعود إلى ماهيّتها؛ بمعنى أنها تختلف مع بعض في ماهيّتها والماهيّة لعالم المخلوقات؛ لذلك فمن المستحيل معرفة اللّه كاملًا وبالتفصيل؛ لأنّ اللّه عزوجل ليست له ماهيّة، بل هو وجود محض بخلاف مخلوقاته وإنّ هذه المعرفة الإجماليّة والمحدودة أيضًا أصبحت مقدورة عن طريق النظر إلى تضادّ صفات اللّه مع صفات غيره؛ على سبيل المثال يمكن معرفته بصفة القديم والأزلي بالنظر إلى حدوث غيره أو يمكن معرفته بصفة العليم والقدير بالنظر إلى جهل وضعف غيره. لذلك قد جاء في رواية أنّ اللّه خلق الكائنات حتّى يُعرَف؛ إذن معرفة الشيء ليست سوى فهم وجوه تمايزه وتفاوته عن الأشياء الأخرى ولهذا السبب يعبّر اللّه عنها في كتابه بكلمة «الفرقان» بمعنى الشيء الذي يفرّق به بين الأشياء المختلفة. ثم يقول:) وهذا ممکن إذا کان هناك معیار (أي ميزان وملاك) للتمییز. من الواضح أنّه لا یمکن الحکم بدون المعیار (يعنى لايمكن للإنسان أن يتعرّف على تطابق الشيء على الآخر أو عدم تطابقه بدون امتلاك أيّ ميزان وملاك. على هذا الأساس فالغرض من الحكم هنا هو العلم بالشيء وليس المقصود إصدار الحكم ولو قد لايمكن إصدار الحكم أيضًا بدون امتلاك المعيار؛ لأنّ كلّ من كان يريد إصدار حكم -ولو كان ظالمًا وجاهلًا للغاية- فإنّ له معيارًا خاطئًا وموهومًا؛ مثل المصلحة الشخصيّة التي هي معيار حكم كثير من الناس. نظرًا إلى هذا الموضوع، فإنّ تعبير سيّدنا المنصور تعبير دقيق حينما يقول: لايمكن الحكم بدون المعيار؛ لأنّ كلّ حكم -سواء كان خاطئًا أو صوابًا- يحتاج إلى معيار ولو كان معيارًا خاطئًا. ثمّ يقول:) ولو کان ممکنًا فرضًا (يعنى إذا افترضنا الحكم بدون المعيار ممكنًا في بدء الأمر) سیحکم کلّ شخص بطریقة ما (لأنّ لكلّ شخصٍ طبعه وذوقه وليس بينهم مبدأ مشترك للحكم) وهذا سيجعل الحكم في نهاية المطاف أمرًا مستحيلًا؛ لأنّه لا یمکن بدون المعیار تشخیص أنّه أيّ الأحکام صحیح وأیّها غیر صحیح. (إذن، إمكان الحكم بدون المعيار في البداية ينتهي إلى عدم إمكانه في النهاية. ثم يقول:) إنّ اختلاف المسلمین الذي قد أدّی إلی ضعفهم وقوّة أعداءهم قد یکون ناشئًا من فقدان معیار المعرفة أو عدم الإلتزام به (لأنّه اتّضح أنّ كلّ شخص يحكم على طريقته عند عدم معرفة المعيار وعدم الالتزام به ولهذا كلّ مذهب وفرقة من المسلمين يحكم بطريقةٍ ما ومن هنا تبدأ الخلافات والخلافات تؤدّي إلى صرف وقت المسلمين وقدراتهم للحرب والجدال وتخريب دنياهم وآخرتهم بدلَ صرفهما لتعمير دنياهم وآخرتهم وتُسلّط أعداءهم عليهم) وهذا یبیّن الحاجة إلی معیار المعرفة والإلتزام به أکثر من قبل. (يقول «أكثر من قبل» لأنّ الحاجة إلى المعيار كانت واضحة من قبل نظرًا إلى الحاجة إلى المعرفة والاحتياج إلى رفع خلاف المسلمين يزيدها وضوحًا. هذه الميزة تعني ضرورة معيار المعرفة كانت المقدّمة الأولى. أمّا المقدّمة الثانية التي هي الميزة الثانية لمعيار المعرفة، فهي)

٢ . وحدة معيار المعرفة

(المقصود من وحدة معيار المعرفة هو كونه واحدًا؛ يعني أنّه يستحيل أن يكون معيار المعرفة شيئين أو أكثر ولهذا فإنّ الكلام عن معايير المعرفة كلام خاطئ. يقول سيّدنا المنصور في هذا الإطار:) إنّ اختلاف المسلمین هو معلول اختلاف معرفتهم بالإسلام؛ بمعنی أنّ الأشخاص والجماعات المختلفة من المسلمین، لدیهم معارف مختلفة بالإسلام (سواءً بعقائد الإسلام أو بأحكامه) ولا یتحمّلون معرفة الآخرین به. (يعنى أنّهم لايتحمّلونها؛ لأنّهم يعتبرون معرفة الآخرين بها باطلة ومن الطبيعي أن لايتحمّلوا الشيء الباطل) من الواضح أنّ الخلاص من هذا الإختلاف، لا یمکن بدون الحصول علی معرفة واحدة (لأنّه مادام هناك أنواع مختلفة من المعرفة بالإسلام وكلّ فئة تحسب واحدةً منها صحيحةً والأخرى باطلةً، فليس من المعقول أن نتوقّع عدم وجود الخلاف، بل إنّ هذا التصور نفسه اختلافٌ وطبيعيٌّ أن يؤدّي إلى الجدال والنزاع) والحصول علی معرفة واحدة، یحتاج إلی معیار واحد. (هذه نقطة مهمّة جدًّا. لماذا؟ لأنّ) المعاییر المتعدّدة توجب معارف متعدّدة (نظرًا إلى أنّ شيئًا واحدًا بمعايير متعدّدة يُعرف بأشكال متعدّدة وكلّ معيار يقتضي نوعًا من المعرفة؛ كما من الممكن أن يستند كلّ شخص على معيار ما؛ لأنّ الإستناد على معايير متعدّدة في آنٍ واحد ليس ممكنًا وخارج عن إطار قدرة الإنسان) والمعارف المتعدّدة توجد الإختلاف (كما اتّضح) والإختلاف لیس حسنًا للمسلمین؛ (هذا التعبير من سيّدنا المنصور تعبير عجيب؛ لأنّه بسيط جدًا من جهة وصحيح تمامًا وغني بالمعاني من جهة أخرى؛ نظرًا إلى أنّ البعض يتصوّرون ويُبدون أنّ الخلاف بين المسلمين شيء طبيعي ولا بأس به ولذلك لاجدوى لمحاولة إزالته، في حين أنّ كلّ بلاء نزل على المسلمين، منشأه نفس هذا الخلاف الطبيعي وبدون إشكال! كيفَ يمكنُ أن نعتبر مبدأَ كلّ مصائب الأمة الإسلامية شيئًا طبيعيًا وبدون إشكال؟! من الواضح أنّ هذا مستحيل ولكن هولاء يزيّنون الخلاف كالشيطان ويعرّفونه أمرًا طبيعيًا وبدون إشكال حتى لايُحرّك ساكن لإزالته. في مقابل هذه الفئة من الناس يقف سيّدنا المنصور ويصدر الحكم ويقول: الخلافُ ليس حسنًا للمسلمين) كما قال اللّه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ[١] وهذا أیضًا شاهد علی أنّ حبل اللّه واحد؛ لأنّه لو کان متعدّدًا لما کان الإعتصام به يوجب الإتّحاد، بل کان نفسه عامل التّفرقة! (لأنّ الاعتصام بأشياء متعدّدة لاتؤدّي إلى الوحدة، بل إلى التعدّد ولأنّ اللّه قد ذكر حبله مفردًا ولم يستعمل صيغة الجمع وهذا يدلّ على وحدته.)

بالإضافة یجب الإلتفات إلی أنّ للحقّ ماهیة (أي عينيّة وميزة) واحدة وغیر قابلة للتکثّر (أي غير قابلة للازدياد)؛ لأنّه في حقیقته (عندما ننظر إليه بصرف النظر عن جميع الاعتبارات) لیس شیئًا سوی الوجود (يريد سيّدنا المنصور أنّ الحقّ إذا نعتبره عاريًا وخارجًا من العناوين المختلفة، فهو مجرّد الوجود في مقابل العدم؛ كما أنّ الباطل إذا نعتبره منفصلًا عن العناوين المختلفة، فهو مجرّد العدم بمعنى عدم الحقّ؛ على سبيل المثال، إنّ العدل الذي نعتبره حقًّا شيء يوجد في العالم واقعيًّا ولكنّ الظلم الذي نعتبره باطلًا ليس إلّا ترك العدل وعدمه؛ فهو يشبه الحرارة التي توجد في الفضاء حقيقة ولكنّ البرودة لاتوجد في الفضاء بشكل واقعي بل هي فقدان للحرارة. إذن فإنّ الباطل ليس وجودُهُ إلا موهومًا وخياليًا ولكن الحقّ واقعي. آتي بمثال آخر حتّى يتّضح الأمر: عندما كان المشركون يقولون أنّ اللات وهبل إلهان، كان كلامهم باطلًا من حيثُ أنّ تلك الأصنام لم تكن آلهةً في الواقع وألوهيّتها لم تكن موجودة بالنحو الذي كان يتوّهم المشركون ولكن عندما يقول المسلمون: إنّ اللّه واحدٌ، فإنّ قولهم حقّ من حيث أنّ كون اللّه واحدًا موجود في الواقع وحقيقة عينيّة. مراد سيّدنا المنصور عن أنّ الحقّ في حقيقته ليس شيئًا سوى الوجود، نفسُ هذا المفهوم. ثمّ يقول في وصف الوجود:) الذي له ذات بسیطة (يعني غير قابلة للتجزئة) وغير قابلة للتعدّد (و هذه هي ميزة الوجود؛ يعني أنّ الوجود رغم أنّه يتعلّق بماهيّات متعدّدة في العالم إلا أنّه واحدٌ ولن يكون متعدّدًا؛ على سبيل المثال، إنّ وجود الإنسان ووجود الفرس ووجود الإبل ووجود الشجر ووجود الحجر، لايختلف بعضها عن بعض من حيث أنّها وجود ولايتفاوت بعضها مع بعض بتفاوت الماهيّات التي تنسب إليها؛ كما يقال: للإنسان وجود وللفرس وجود وللشجر وجود وفي كلّ هذه الأشياء يراد معنىً واحدًا من الوجود؛ لأنّ في العالم نوع واحد من الوجود فقطّ ولايوجد فيه أنواع من الوجود.) وهذا يستلزم وحدة معرفته (يعني وحدة معرفة الحقّ) وبالتالي وحدة معيار معرفته. (يعني بالنظر إلى أنّ الحقّ ليس إلا الوجود والوجود واحد في الواقع، في النتيجة يكون الحقّ واحدًا بالضرورة وإذا كان الحقّ واحدًا بالضرورة فيعرف بشكل واحد بالضرورة ولايمكن أن يُعرف بأشكال مختلفة وعلى هذا الأساس يحتاج إلى معيار واحد للمعرفة؛ لأنّ المعرفة الواحدة تتحقق من خلال معيار واحد ولكنّ المعايير المختلفة تؤدّي إلى معارف مختلفة. هذا الذي قلته كان مراد سيّدنا المنصور من هذه الكلمات ولكن مع هذا، فإنّه يتحدّث بأسلوب آخر من أجل تبيين أكثر لهذه النقطة المهمّة فيقول:) بعبارة أخری، إنّ الحقّ هو تکوین اللّه أو تشریعه الذي نشأ من وحدانیّته الذاتیّة ولذلك لیس فیه اختلاف ولا یمکن وجدانه مختلفًا؛ (لأنّه اتّضح أنّه ليس إلّا وجودًا والوجود إمّا حقيقي وطبيعي كمخلوقات اللّه وإمّا قانوني وإنشائي كشرائع اللّه وفي كلتا الحالتين قد أصبح موجودًا بواسطة موجد والموجد يعني اللّه واحدٌ وليس متعدّدًا؛ فالحقّ الذي قد أصبح موجودًا بواسطته واحدٌ أيضًا ولايقبل الإختلاف والتفاوت؛ لأنّ الإختلاف والتفاوت ليسا في أفعال اللّه) كما أنّ اللّه قال فيما يتعلّق بتكوينه: ﴿مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ۖ[٢] وقال فيما يتعلّق بتشريعه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[٣]. (علاوة على هاتين الآيتين فهو يستند في موضع آخر إلى هذه الآية الشريفة: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ [القمر/ ٥٠] بمعنى أنّه ليس فيه تعدّد؛ ثمّ هكذا يستنتج فيقول:) لذلك فإنّ للحقّ -سواء کان تکوین اللّه أو تشریعه- وجودًا واحدًا وغیر قابل للتعدّد وکلّ ما سواه فیعتبر باطلًا؛ کما قال اللّه: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحقّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ[٤]. (هذا يعني أنّه خلافًا لتصوّر البعض، ليس هناك شيء باسم الحقّ الأقلّ بعد الحقّ والحقّ لايمتلك هذه المراتب ولذلك يقول:)

الخلاصة أنّ الحقّ واحد؛ لأنّ له مصدرًا واحدًا والواحد یقتضي معرفة واحدة والمعرفة الواحدة تحتاج إلی معیار واحد. (هذه كانت خلاصة هذا المبحث، فأما المبحث الآتي فيدور حول الذين قد أنكروا وحدة الحقّ ومعيار معرفته طوال التاريخ سواء قبل الإسلام أو بعده وسواء بين المسلمين أو غيرهم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه)

↑[١] . آل عمران/ ١٠٣.
↑[٢] . الملك/ ٣.
↑[٣] . النّساء/ ٨٢.
↑[٤] . يونس/ ٣٢.